الناسخ والمنسوخ كما فهمه الأوائل
للنسخ في اللغة معنيان الأول بمعنى
إزالة الشيء وإعدامه والثاني نقل الشيء وتحويله مع بقائه في مكانة، الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم هو
مفهوم يتعلق بالأحكام الشرعية التي تم تغييرها أو إلغاؤها بأحكام جديدة والنسخ يعني
رفع حكم شرعي سابق بحكم شرعي لاحق، ويمكن أن يحدث النسخ في القرآن بثلاثة أشكال كما قسمها الأوائل:
-
نسخ الحكم وبقاء التلاوة: أي
أن الآية تبقى في النص القرآني لكن الحكم الذي كانت تتضمنه يُلغى وهناك أمثلة علي ذلك منها أية شرب الخمر سورة النساء الآية ٤٣ {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} نزلت هذه الآية في بدايات الإسلام وكان شرب
الخمر دارج في هذه البيئة القاسية وكان تحريمه فجأة صعب التطبيق، وعندما سؤل النبي
عن الخمر فكان ردة تمهيدا لتحريمها كما جاء في سورة البقرة الآية ٢١٩ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
ولكن بعد أن تمكن الإسلام في النفوس نزل أمر تحريمها كما في سورة المائدة الآية ٩٠
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} ثم تليها الآية ٩١ لتخاطب العقل
وتوضح سبب التحريم {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ}
وهناك مثل
آخر وهو عدة النساء بعد الطلاق أو الوفاة فقد ورد في
سورة البقرة ٢٤٠ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ
غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وقد كان هذا الحكم دارج قبل الإسلام بتحديد العدة بسنة
كاملة ثم تلا ذلك تحديد مدة العدة حتى لا يكون هناك ظلم للمرأة بشكل واضح في عدة آيات مثل قوله تعالى: عدة المطلقة {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} البقرة ٢٢٨ ثلاث
قروء أي ثلاث حيضات ليتأكدن من عدم حملهن.
عدة
الأرملة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا} البقرة ٢٣٤، هذه الآيات
جاءت لتحديد مدة العدة بشكل دقيق ولتنظيم الأمور المتعلقة بالزواج والطلاق بما
يتماشى مع الشريعة الإسلامية وهناك العديد من الآيات على
هذا المنوال.
وهناك أمثلة عن حكم الزنا ورد في
سورة النساء ففي الآية ١٦ {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ
اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} كان حكم اللذان يقعان في فاحشة الزنى
فآذوهما بالتعنيف والتوبيخ فإن تابا عما وقع منهما وأصلحا بما يقدمان من الأعمال
الصالحة فاصفحوا عنهما وهذا كان في بدايات الإِسلام ثم نسخه قوله تعالي الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.
وهناك مثل آخر على حكم المواريث ففي
الآية ٣٣ من سورة النساء {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدًا} بمعني والذين تحالفتم معهم بالأيمان المؤكدة على النصرة وإعطائهم
نصيبهم من الميراث، وكان ذلك في أول الإسلام ثم رفع حكمه بنزول آيات المواريث،
وكما جاء في سورة الأعراف الآية ٧٥ {وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ} بمعني والذين آمنوا من بعد وهاجروا
وجاهدوا بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية فأولئك منكم، وأولو القرابة بعضهم أولى
ببعض في التوارث حيث نسخ الله الميراث بالهجرة بعد فتح مكة ورد الله المواريث إلى
ذوي الأرحام فقط.
-
نسخ التلاوة والحكم معًا: أي أن الآية تُرفع من النص القرآني
ولا يُعمل بحكمها، ومثال علي ذلك
وهو رفع حكم شرعيّ ورد في آية في القرآن الكريم بتلاوته ومضمونه ومثال ذلك حكم
إرضاع الكبير فقد نسخ حكم العشر رضعات للتحريم {حيث روت عائشة أم المؤمنين رضي
الله عنها عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ
عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ،
فَتُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهُنَّ فِيما يُقْرَأُ
مِنَ الْقُرْآنِ} ودل الحديث على نسخ الحكم وأمّا نسخ التلاوة فمع أنّ الظاهر هو
بقاء التلاوة إلاَّ أنّه غير موجود في المصحف العثماني وذلك لأنّ التلاوة نُسخت
ولم يبلغ الناس ذلك إلا بعد وفاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فلما توفي كان لا
يزال بعض الناس يقرؤونها.
هذا ما ورد في كتب التراث نصاً وهناك الكثير فهل ذلك مقبول؟
-
نسخ التلاوة وبقاء الحكم: أي أن الآية تُرفع من النص القرآني
لكن الحكم الذي كانت تتضمنه يبقى ساريًا.
وهو رفع التلاوة للآية التي تضمنت
الحكم الشرعيِّ وبقاء الحكم والعمل به ومثال ذلك في كتاب الله تعالى آية الرجم وهي
{الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم} فرُفعت
هذه التلاوة ولا توجد في المصاحف العثمانية الآن إلا أن الحكم الشرعي لازال قائمًا
برجم الزاني والزانية ويؤخذ به في بعض البلدان، بالرغم من وجود نص صريح في القران
بالجلد وليس الرجم سورة النساء الآية ١٦ {وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} فأذوهما وليس افتلوهما وكما جاء في
سورة النور الآية٢ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقد أنكر بعض العلماء هذا النوع
من النسخ لكونه قد نُسخ بخبر آحاد أي من مصدر واحد، ولا يجوز القطع على نسخ خبر في
القرآن الكريم أو إنزال آية فيه عن طريق خبر الآحاد وقد قال ابن الحصار إنما يرجع
في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي يقول آية كذا
نسخت كذا قال وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف
المتقدم والمتأخر، وقال أيضًا لا يعتمد في النسخ على قول عوام المفسرين بل ولا
اجتهاد المجتهدين من غير نقل صريح ولا معارضة بينة لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات
حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي
والاجتهاد.
هذا ما ورد في كتب التراث نصاً
وهناك الكثير فهل ذلك مقبول؟
ولقد اعتمدوا هذا التقسيم بناء على
آية كريمة في القران سيء فهما من سورة البقرة الآية ١٠٦ {مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
ننسخ بمعني أن نبطل حكمها وننسها أي نجعلها منسيه.
ولم ينظروا ويتدبروا الآية ١٠٥ التي
تسبقها {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ} الله سبحانه وتعالي هو من انزل الكتب السماوية والشرائع جميعها
على ما يتناسب مع كل بيئة وزمان ونحن ملزمون بالإيمان بهؤلاء الرسل والكتب التي
أنزلت عليهم وكما جاء في سورة العنكبوت الآية ٤٦ {وَقُولُوا
آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا
وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، فأحل الله أشياء على قوم
محددون وحرمها على آخرين كما حرم على قوم بني إسرائيل أشياء في شريعتهم وكما بينته
سورة الأنعام الآية ١٤٦ {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} وقد حرمنا على اليهود كل ذي ظفر وهو كل ما له مخلب من
الطير وشحوم البقر والغنم حرمت عليهم إلا ما علق من الشحم بظهورها أو الحوايا وهي
الأمعاء أو ما تحتويه البطن أو اختلط أي التصق بعظم وذلك التحريم على اليهود عقوبة
لهم بسبب أعمالهم السيئة، وبنزول القران فقد تم نسخ هذه الآية.
أي أن المقصود من السورة المنسوخة هو
إبطال وإلغاء أوامر من الله في رسالات وكتب سابقة للقران وفي آيات من القران نفسه
كما ورد في نسخ الحكم وإبقاء التلاوة رحمة بالبشر، ولا يجوز لبشر أن يدعي علي الله
كذباً وبهتاناً كما ورد في سورة العنكبوت أيضاَ في الآية ٦٨ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ
كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى
لِلْكَافِرِينَ}.
وهنا أسأل كل من يقول بأن هناك آيات
نسخت أي أزيلت مما أنزل الله إما نصاً وتلاوة أو حكماً أكفرتم بالآية ٩ من سورة
الحجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} الذكر أي القرآن، أولئك ينطبق
عليهم قول الله كما ورد في سورة الحجر الآية ٩٠ {كَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} المقتسمين
أي الذين قسموا كتابهم فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، ثم تأتي الآية ٩١ وتصفهم {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}
عضين أي مفرقا أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه،
أو كما يوصفون شيعاً أي جماعات وأحزاب كما جاء في سورة المؤمنون الآية ٥٣ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا
كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وسورة الروم الآية ٣٢ {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.